الاثنين، 27 مايو 2013

"كشفُ الغطاءِ عمَّا اسْتُنكر واسْتُغرب في تراجمِ الرواةِ في سيرِ أعلامِ النُّبلاء "















"كشفُ الغطاءِ عمَّا اسْتُنكر واسْتُغرب في تراجمِ الرواةِ في سيرِ أعلامِ النُّبلاء "
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله وبعدُ :
 فقد وقع في نفسى يوماً وأنا أُطالعُ كتاب "سير أعلام النُّبلاء" للإمام أبي عبد الله الذَّهبي _رحمه  الله_ ، أن أقومَ بقراءة هذ الكتاب (قراءةً متأنيةً) قوامها : التتبعُ والاستقراء , والنقد البناء , لما حواه " سير أعلام النُّبلاء" في داخل طياته _ وبين السطور من صفحاته _ ، من مخالفاتٍ صدرت ممن ترجم لهم الذهبيُّ في "كتابه".
 سواءٌ كانت هذه المخالفات ، تمسُّ الجانب العقدي ، أو الشرعي , أو غيرهما, وأهمل (الذهبيُّ) نقدها على من تلبس بها – أو نسبت إليه وليس هو من أهلها –وذلك لعدم وجود الإسناد الذى يجعلنا أن نقول: أن هذا الخطأ العقدي (المذكور هذا) ، منسوبٌ إلى هذا النبيل _كما أورد الذهبيُّ_ (رحمه الله) ، أو هذه الأفعال التي تمسُّ جانب العبادة أو غيرها  = وكان يشوبها نوعٌ من الغلو ، أو غير ذلك , ولم ترد في سُنَّةِ نبيِّنا _عليه الصلاة والسَّلام_ سيد الانام ، أولم تبلغنا عن الصَّحب الكرام الأعلام = , صدرت منه فعلاً.
  
 ومما جعلني أقدمُ على هذا البحث ؛ حيثُ أنَّه كنت أقرأُ يوماً في "سير أعلام النُّبلاء" في ترجمة المغيرة بن شعبة(داهية الرأي) _رضي الله عنه_ ومما أثار دهشتي حينئِذٍ _خبرٌ أورده أبو عبد الله الذهبي _رحمه الله_ في ترجمة المغيرة بن شعبة _رضي الله عنه _ ، ومضمونُ هذا الخبر : هو أن شعبة _رضي الله عنه _ كان يتزوج أربعاً جميعاً, ويطلقهنَّ جميعاً , وأنَّه كان يجمع الأربعة من نساءه, ثم يقول لهنٌ: "أنتنَّ حسنات الأخلاق, طويلات الأعناق, ولكنِّي رجلٌ مطلاقٌ ؛ فأنتنَّ الطلاق "...!!
فقلت في نفسي : هل هذا فعلاً قاله المغيرة _رضي الله عنه_ ؟!.
فإن زُعم ذلك !، فأين الإسناد الذى نثبت به صحة هذا الفعل إليه؟.
والذى يدفعنا إلى الشك في الإسناد _على افتراض وجوده_ ، أننا لم نعهده (أي: هذا الفعل) عن النَّبي _صلى الله عليه وسلم_, وكذلك إخوانه(أي المغيرة)من الصحابة الكرام _رضي الله عنهم_ .
ثم قلتُ أيضا : وهل يتصور هذا من صحابيٍّ (تخرَّج في مدرسة النُّبوة) أن يجمع نساءه الأربع ,ثم يقول لهنَّ مادحاً (أنتنَّ حسنات الأخلاق ,طويلات الأعناق ,ولكنِّي رجلٌ مطلاق, فأنتُنَّ الطَّلاق)([1])...!!
فقلت في  نفسى حينئِذٍ : إذا كنَّ بهذا الوصف الذى وصف =(أي : أنهن حسنات الأخلاق, طويلات الأعناق ،  والأولى : تدلُ على جودة أخلاقهنَّ _وهذه من ركائز اختيار المرأة_ , والأخرى : تدلُ على براعة جمالهنَّ)= فلماذا طلقهنَّ ؟ ولكن إذاً فما العلةُ التي طلقهنَّ المغيرة _رضي الله عنه_ ،كما في الخبر ، من أجلها؟!
أجاب المغيرة بنفسه قائلاً :(ولكنّي رجلٌ مِطلاقٌ ), وهذه العبارةُ توحى على أنه مغرمٌ بطلاق النساء  ، والشاهدُ على ذلك : قوله _كم في الخبر_:(ولكنِّي رجلٌ مطلاقٌ ) ,فهي صيغة مبالغة...!!
فهل كان المغيرةُ فعلاً كذلك _أي : أنَّه مغرمٌ بالطَّلاق_ ، بدون علةٍ ، تستوجب طلاقاً لنسآءه ؟!.

 وأنا لم أتسآءل هذه الأسئلة _في داخلي_ إلَّا خوفاً على نفسي ؛ أن ينطق لساني بشيءٍ عن صحابيٍّ ، جليل القدر ، عظيم الفهم ، ويكفي أنَّه (مغيرة الرَّأي) ، لم أتثبت منه ، ولم ينبري قلمي في معرفة صحة ما نُسب إليه من سقيمه ...!!

ثم قلتُ : على افتراض أنه ثبت عنه ؛ فهل كان للمغيرة _رضي الله عنه_ مستندٌ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ في ذلك ، أو أنَّه قوله وفعله هو ؟ . وإذا كان قوله وفعله هذا مخالفاً للكتاب والسُّنة النبوية صحيحة ، وسلف الأمة مثلاً ، أو جمهورهم ؛ فقد لا نُعوِّل عليه ، ولا نذيعه في المحافل ؛ إلَّا على وجه البيان ، وأنَّه مما اسْتُنكر على المغيرة _رضي الله عنه_ .
وليس بعجبٍ أن ينفرد صحابيٍّ بسنةٍ عن جماهير الصحابة _رضوان الله عليهم _ أو مع وجودِ نصٍّ من كتابٍ أو سنةٍ ، ولكنَّه قد يُسوِّغ ذلك ، ويُفتي به (بضربٍ من التأويل) ، أو يراه منسوخاً  مثلاً ، أو أنَّه لم يعلم بنسخه .

وممَّا يحضرني ذكره الآن ؛ هو فتوى ابن عباسٍ _رضي الله عنهما_  بزواج المتعة ، وأنَّه كان متمسكاً بهذا القول ، ويُفتي به ، وكذلك تلاميذه من بعده  ، كـــ "عكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبيرٍ" ، ولمَّا بلغ ذلك بعض الصحابة _رضي الله عنهم_ قال كلاماً معناه :"أن ابن عباسٍ ، لم يدر ما يخرجُ من رأسه" .
كذا كان عليٌّ _رضي الله عنه_ يُعِلم ابن عباسٍ _رضي الله عنهما_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ حرَّم ذلك (أي : زواج المتعة) ، والدليلُ على ذلك ؛ ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (4825) من طريق الحسن بن محمد بن علي  وأخيه عبد اله عن أبيهما : أن عليَّاً _رضي الله عنه _ قال لابن عباسٍ _رضي الله عنهما_ :" إن النَّبي _صلى الله عليه وسلم_ نهى عن زواج المتعة ، وعن لحوم الحُمر الأهلية في زمان خيبر" .

             هذا ؛ وقد حاول بعضُ العلماء أن ينفي ثبوت ذلك عن ابن عباس _رضي الله عنهما_،                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            (والأسانيدُ إليه ثابتةٌ) ، ولكن حمله بعض العُلماء ، على أنَّه كان يُفتي بذلك للضرورة ، وهذا يدخل تحت باب (استدراكات الصحابة بعضهم على بعضٍ) .  
                         
وممَّا دفعني إلى هذه المقدمة : هو ما قد ينقدحُ في قلوب البعض، عند كلامي في بعض الأعلام النُّبلاء (من الغضب والتغيظ) ، ويقولون : كيف تُسوغ له نفسُه ؛ أن ينبري قلمُه ، وأن يُصوب لسانه بالطَّعن على النُّبلاء ممن زعم الذهبي _رحمه الله_ أنهم أعلامٌ ونُبلاء ، وعُبَّادٌ وأتقياءٌ لله تعالى ؟!!.

 ولكنِّي لا أجدُ من نفسي إلَّا التماس العذر لهم ، وأنَّه لم يدفعهم إلى هذا ؛ إلًّا الحميَّة والغيرة على نقد العلماء الأجلاء ، والزُّهاد العبَّادُ الأتقياء ، ونقد من زعم الذهبي أنهم أعلامٌ نِبالٌ .

وهذا  المثالُ الذي قدمته ، وهو مخالفة ابن عباس _رضي الله عنهما_ لجمهور الصحابة _رضوان الله عليهم_ ؛ يردُّ عليهم جميعاً ، فكما ردَّ عليٌّ على ابن عباسٍ _ رضي الله عنهم_ وأخذ يذكره بما ورد عن النَّبي _صلواتُ الله وسلامه عليه_ ، في تحريم المتعة _كما بيَّنا آنفاً_ ، يُجوِّزُ لنا (بالنقل عن السابقين المعتبرين من أهل  السُّنة والجماعة) ، أن نُخطئ الصحابي أو نُوهِّمهُ .
سواءٌ أكان ساهياً أو متعمداً أو متأولاً ، فمن باب أولى ؛ أن نُخطئ من هم دونهم ، وليس هم في مثل علمهم ، فأين هم كلهم من ابن عباسٍ _رضي الله عنه_  وعلمه ( أعني :التابعين ومن بعدهم) ، حيثُ دعا له النَّبي _صلى الله عليه وسلم_ وقال :"اللًّهم علمه التأويل"..!! .
وعلى الرغم من ذلك ؛ لم يكن ابن عباسٍ _رضي الله عنهما_ معصوماً من الخطأ ، ولم يستنكف الصحابة أنفسهم ذلك ( أي : ردُّهم عليه) ، وأخذ بعضهم يستنكر عليه ما كان مخالفاً للسُّنة ، كما كان هو الشأنُ من عليٍّ _رضي الله عنه_ .
فإن كان هذا (أي : الخطأ) جائزاً على الصحابة _رضوان الله عليهم أجمعين_ ، وكذلك : السَّهو ، والنِّسيان ، والغفلة ؛ فمن باب أولى : غيرهم من التابعين ، وأتباع التابعين ، ومن هم من عصرهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .         




([1]"سير أعلام النبلاء "(3/ 31) أورده الذهبي _رحمه الله_  فقال : " أبي إسحاق الطالقاني قال حدثنا ابن المبارك، قال :كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة ، فصفهن بين يديه ، وقال : " أنتن حسنات الأخلاق ، طويلات الأعناق ، ولكني رجل مطلاق ، فأنتن الطلاق "!! . وعن ابن وهبٍ عن مالكٍ : " وكان ينكح أربعا جميعاً ، ويطلقهنَّ جميعاً ".

ولقد استنكرتُ هذا الخبر للآتي :
أولاً : أنه ليس له إسنادٌ صحيحٌ يعوَّل عليه ، في دواوين السُّنة النبوية المطهرة ، لذا لا ينبغي مطلقاً أن ننسب كلاماً إليه _أو لغيره_ ؛ لم يصح إسنادُ ذلك إلينا عنه .

ثانياً : أن هذ الكلام ، يحمل غرابةً في نفسه ، فكيف بصحابيٍّ جليلٍ مثل المغيرة بن شعبةَ _رضي الله عنه _ ( داهية الرأي ) ، أن يكون مغرماً بطلاق النِّسوة ، من دون سببٍ شرعيٍّ واضحِ _ ، وذلك ؛ لما ورد معاً في المتن ، أنه كان يجمع الأربعة من نسآئه ، ثم يقول لهنَّ مادحاً : " أنتنَّ حسنات الأخلاق ، طويلات الأعناق ، ولكنِّي رجلٌ مطلاق ، فأنتنَّ الطلاق " ! .
فكيف بعد مدحهن ، والاعتراف بفضلهن ، طفق يطلقهن بغير سببٍ شرعيٍّ واضح ،  ثم يُعلل ذلك بقوله : "ولكنِّي رجلٌ مطلاق" ؟! .  

ثالثاً : على فرض ثبوت ذلك عنه (أعني : المغيرة _رضى الله عنه_) ، فهل الصحابة _رضوان الله عليهم _ معصومون ؟ . الجواب : لا ، ولقد عُقد إجماع أهل العلم على ذلك ، لذا ، لا ينبغي أبداً ، أن يقلد أحدٌ من الناس المغيرة فيما فعل _هذا إن صحَّ عنه _ ، لأنه ليس من هدي المصطفى _صلوات الله وسلامه عليه _ ، ولا من هدي أصحابه _رضوان الله عليهم جميعاً_، أن يطلقوا النسوة من دون سببٍ شرعيٍّ واضح ، كوضوح الشمس في رابعة النهار ، بل قد ورد عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ خلاف ذلك ، وذم التعجل في الإقدام عليه .

 فقد روى الإمام أحمد في "مسنده " (22/275 رقم 14377) بإسنادٍ صحيحٍ عن جابرٍ _رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلةً ؛ أعظمهم فتنةً ، يجيء أحدهم ، فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئاً ، قال : ويجيء أحدهم ، فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، قال: فيدنيه منه - أو قال: فيلتزمه - ويقول: نعم أنت أنت " .

فأقول _والله أعلم _ أنه لا يليقُ برجلٍ تخرَّج من مدرسة النبوة ، أن يصدر منه مثل ذلك ، وهو يعلمه ، فكيف ذلك وهو لم يصحْ عنه ؟ : (أعني : المغيرة _رضى الله عنه_) !! .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق