"كشفُ الغطاءِ عمَّا اسْتُنكر واسْتُغرب
في تراجمِ الرواةِ في سيرِ أعلامِ النُّبلاء "
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول
الله وبعدُ :
فقد وقع في نفسى يوماً وأنا أُطالعُ كتاب
"سير أعلام النُّبلاء" للإمام أبي عبد الله الذَّهبي _رحمه الله_ ، أن أقومَ بقراءة هذ الكتاب (قراءةً
متأنيةً) قوامها : التتبعُ والاستقراء , والنقد البناء , لما حواه " سير
أعلام النُّبلاء" في داخل طياته _ وبين السطور من صفحاته _ ، من مخالفاتٍ
صدرت ممن ترجم لهم الذهبيُّ في "كتابه".
سواءٌ كانت هذه المخالفات ، تمسُّ الجانب العقدي
، أو الشرعي , أو غيرهما, وأهمل (الذهبيُّ) نقدها على من تلبس بها – أو نسبت إليه
وليس هو من أهلها –وذلك لعدم وجود الإسناد الذى يجعلنا أن نقول: أن هذا الخطأ
العقدي (المذكور هذا) ، منسوبٌ إلى هذا النبيل _كما أورد الذهبيُّ_ (رحمه الله) ،
أو هذه الأفعال التي تمسُّ جانب العبادة أو غيرها
= وكان يشوبها نوعٌ من الغلو ، أو غير ذلك , ولم ترد في سُنَّةِ نبيِّنا
_عليه الصلاة والسَّلام_ سيد الانام ، أولم تبلغنا عن الصَّحب الكرام الأعلام = ,
صدرت منه فعلاً.
ومما جعلني أقدمُ على هذا البحث ؛ حيثُ أنَّه
كنت أقرأُ يوماً في "سير أعلام النُّبلاء" في ترجمة المغيرة بن
شعبة(داهية الرأي) _رضي الله عنه_ ومما أثار دهشتي حينئِذٍ _خبرٌ أورده أبو عبد
الله الذهبي _رحمه الله_ في ترجمة المغيرة بن شعبة _رضي الله عنه _ ، ومضمونُ هذا
الخبر : هو أن شعبة _رضي الله عنه _ كان يتزوج أربعاً جميعاً, ويطلقهنَّ جميعاً ,
وأنَّه كان يجمع الأربعة من نساءه, ثم يقول لهنٌ: "أنتنَّ حسنات الأخلاق,
طويلات الأعناق, ولكنِّي رجلٌ مطلاقٌ ؛ فأنتنَّ الطلاق "...!!
فقلت في نفسي : هل هذا فعلاً قاله
المغيرة _رضي الله عنه_ ؟!.
فإن زُعم ذلك !، فأين الإسناد الذى نثبت
به صحة هذا الفعل إليه؟.
والذى يدفعنا إلى الشك في الإسناد _على
افتراض وجوده_ ، أننا لم نعهده (أي: هذا الفعل) عن النَّبي _صلى الله عليه وسلم_,
وكذلك إخوانه(أي المغيرة)من الصحابة الكرام _رضي الله عنهم_ .
ثم قلتُ أيضا : وهل يتصور هذا من
صحابيٍّ (تخرَّج في مدرسة النُّبوة) أن يجمع نساءه الأربع ,ثم يقول لهنَّ مادحاً
(أنتنَّ حسنات الأخلاق ,طويلات الأعناق ,ولكنِّي رجلٌ مطلاق, فأنتُنَّ الطَّلاق)([1])...!!
فقلت في نفسى حينئِذٍ : إذا كنَّ بهذا الوصف الذى وصف
=(أي : أنهن حسنات الأخلاق, طويلات الأعناق ،
والأولى : تدلُ على جودة أخلاقهنَّ _وهذه من ركائز اختيار المرأة_ ,
والأخرى : تدلُ على براعة جمالهنَّ)= فلماذا طلقهنَّ ؟ ولكن إذاً فما العلةُ التي
طلقهنَّ المغيرة _رضي الله عنه_ ،كما في الخبر ، من أجلها؟!
أجاب المغيرة بنفسه قائلاً :(ولكنّي
رجلٌ مِطلاقٌ ), وهذه العبارةُ توحى على أنه مغرمٌ بطلاق النساء ، والشاهدُ على ذلك : قوله _كم في
الخبر_:(ولكنِّي رجلٌ مطلاقٌ ) ,فهي صيغة مبالغة...!!
فهل كان المغيرةُ فعلاً كذلك _أي :
أنَّه مغرمٌ بالطَّلاق_ ، بدون علةٍ ، تستوجب طلاقاً لنسآءه ؟!.
وأنا لم أتسآءل هذه الأسئلة _في داخلي_ إلَّا
خوفاً على نفسي ؛ أن ينطق لساني بشيءٍ عن صحابيٍّ ، جليل القدر ، عظيم الفهم ،
ويكفي أنَّه (مغيرة الرَّأي) ، لم أتثبت منه ، ولم ينبري قلمي في معرفة صحة ما
نُسب إليه من سقيمه ...!!
ثم قلتُ : على افتراض أنه ثبت عنه ؛ فهل
كان للمغيرة _رضي الله عنه_ مستندٌ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ في ذلك ، أو
أنَّه قوله وفعله هو ؟ . وإذا كان قوله وفعله هذا مخالفاً للكتاب والسُّنة النبوية
صحيحة ، وسلف الأمة مثلاً ، أو جمهورهم ؛ فقد لا نُعوِّل عليه ، ولا نذيعه في
المحافل ؛ إلَّا على وجه البيان ، وأنَّه مما اسْتُنكر على المغيرة _رضي الله عنه_
.
وليس بعجبٍ أن ينفرد صحابيٍّ بسنةٍ عن
جماهير الصحابة _رضوان الله عليهم _ أو مع وجودِ نصٍّ من كتابٍ أو سنةٍ ، ولكنَّه
قد يُسوِّغ ذلك ، ويُفتي به (بضربٍ من التأويل) ، أو يراه منسوخاً مثلاً ، أو أنَّه لم يعلم بنسخه .
وممَّا يحضرني ذكره الآن ؛ هو فتوى ابن
عباسٍ _رضي الله عنهما_ بزواج المتعة ،
وأنَّه كان متمسكاً بهذا القول ، ويُفتي به ، وكذلك تلاميذه من بعده ، كـــ "عكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن
جُبيرٍ" ، ولمَّا بلغ ذلك بعض الصحابة _رضي الله عنهم_ قال كلاماً معناه
:"أن ابن عباسٍ ، لم يدر ما يخرجُ من رأسه" .
كذا كان عليٌّ _رضي الله عنه_ يُعِلم
ابن عباسٍ _رضي الله عنهما_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ حرَّم ذلك (أي : زواج
المتعة) ، والدليلُ على ذلك ؛ ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (4825) من
طريق الحسن بن محمد بن علي وأخيه عبد اله
عن أبيهما : أن عليَّاً _رضي الله عنه _ قال لابن عباسٍ _رضي الله عنهما_ :"
إن النَّبي _صلى الله عليه وسلم_ نهى عن زواج المتعة ، وعن لحوم الحُمر الأهلية في
زمان خيبر" .
هذا ؛ وقد حاول بعضُ العلماء أن ينفي
ثبوت ذلك عن ابن عباس _رضي الله عنهما_، (والأسانيدُ إليه ثابتةٌ) ، ولكن حمله بعض العُلماء ، على أنَّه كان يُفتي بذلك للضرورة ، وهذا يدخل تحت باب (استدراكات الصحابة بعضهم على بعضٍ) .
وممَّا دفعني إلى هذه المقدمة : هو ما
قد ينقدحُ في قلوب البعض، عند كلامي في بعض الأعلام النُّبلاء (من الغضب والتغيظ)
، ويقولون : كيف تُسوغ له نفسُه ؛ أن ينبري قلمُه ، وأن يُصوب لسانه بالطَّعن على
النُّبلاء ممن زعم الذهبي _رحمه الله_ أنهم أعلامٌ ونُبلاء ، وعُبَّادٌ وأتقياءٌ
لله تعالى ؟!!.
ولكنِّي لا أجدُ من نفسي إلَّا التماس العذر لهم
، وأنَّه لم يدفعهم إلى هذا ؛ إلًّا الحميَّة والغيرة على نقد العلماء الأجلاء ،
والزُّهاد العبَّادُ الأتقياء ، ونقد من زعم الذهبي أنهم أعلامٌ نِبالٌ .
وهذا
المثالُ الذي قدمته ، وهو مخالفة ابن عباس _رضي الله عنهما_ لجمهور الصحابة
_رضوان الله عليهم_ ؛ يردُّ عليهم جميعاً ، فكما ردَّ عليٌّ على ابن عباسٍ _ رضي
الله عنهم_ وأخذ يذكره بما ورد عن النَّبي _صلواتُ الله وسلامه عليه_ ، في تحريم
المتعة _كما بيَّنا آنفاً_ ، يُجوِّزُ لنا (بالنقل عن السابقين المعتبرين من أهل السُّنة والجماعة) ، أن نُخطئ الصحابي أو
نُوهِّمهُ .
سواءٌ أكان ساهياً أو متعمداً أو
متأولاً ، فمن باب أولى ؛ أن نُخطئ من هم دونهم ، وليس هم في مثل علمهم ، فأين هم
كلهم من ابن عباسٍ _رضي الله عنه_ وعلمه (
أعني :التابعين ومن بعدهم) ، حيثُ دعا له النَّبي _صلى الله عليه وسلم_ وقال
:"اللًّهم علمه التأويل"..!! .
وعلى الرغم من ذلك ؛ لم يكن ابن عباسٍ
_رضي الله عنهما_ معصوماً من الخطأ ، ولم يستنكف الصحابة أنفسهم ذلك ( أي : ردُّهم
عليه) ، وأخذ بعضهم يستنكر عليه ما كان مخالفاً للسُّنة ، كما كان هو الشأنُ من
عليٍّ _رضي الله عنه_ .
فإن كان هذا (أي : الخطأ)
جائزاً على الصحابة _رضوان الله عليهم أجمعين_ ، وكذلك : السَّهو ، والنِّسيان ،
والغفلة ؛ فمن باب أولى : غيرهم من التابعين ، وأتباع التابعين ، ومن هم من عصرهم
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
([1]) "سير أعلام النبلاء "(3/ 31) أورده
الذهبي _رحمه الله_ فقال : " أبي
إسحاق الطالقاني قال حدثنا ابن المبارك، قال :كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة ،
فصفهن بين يديه ، وقال : " أنتن حسنات الأخلاق ، طويلات الأعناق ، ولكني رجل
مطلاق ، فأنتن الطلاق "!! .
وعن ابن وهبٍ عن مالكٍ : " وكان ينكح أربعا جميعاً ، ويطلقهنَّ جميعاً
".
ولقد استنكرتُ هذا الخبر للآتي :
أولاً : أنه ليس له إسنادٌ صحيحٌ يعوَّل عليه ، في دواوين السُّنة النبوية
المطهرة ، لذا لا ينبغي مطلقاً أن ننسب كلاماً إليه _أو لغيره_ ؛ لم يصح إسنادُ
ذلك إلينا عنه .
ثانياً : أن هذ الكلام ، يحمل غرابةً في نفسه ، فكيف بصحابيٍّ جليلٍ مثل
المغيرة بن شعبةَ _رضي الله عنه _ ( داهية الرأي ) ، أن يكون مغرماً بطلاق النِّسوة
، من دون سببٍ شرعيٍّ واضحِ _ ، وذلك ؛ لما ورد معاً في المتن ، أنه كان يجمع
الأربعة من نسآئه ، ثم يقول لهنَّ مادحاً : " أنتنَّ حسنات الأخلاق ، طويلات
الأعناق ، ولكنِّي رجلٌ مطلاق ، فأنتنَّ الطلاق " ! .
فكيف بعد مدحهن ،
والاعتراف بفضلهن ، طفق يطلقهن بغير سببٍ شرعيٍّ واضح ، ثم يُعلل ذلك بقوله : "ولكنِّي رجلٌ مطلاق"
؟! .
ثالثاً : على فرض ثبوت ذلك عنه (أعني : المغيرة _رضى الله عنه_) ، فهل الصحابة
_رضوان الله عليهم _ معصومون ؟ . الجواب : لا ، ولقد عُقد إجماع أهل العلم على ذلك
، لذا ، لا ينبغي أبداً ، أن يقلد أحدٌ من الناس المغيرة فيما فعل _هذا إن صحَّ
عنه _ ، لأنه ليس من هدي المصطفى _صلوات الله وسلامه عليه _ ، ولا من هدي أصحابه
_رضوان الله عليهم جميعاً_، أن يطلقوا النسوة من دون سببٍ شرعيٍّ واضح ، كوضوح
الشمس في رابعة النهار ، بل قد ورد عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ خلاف ذلك ، وذم
التعجل في الإقدام عليه .
فقد روى الإمام أحمد في
"مسنده " (22/275 رقم 14377) بإسنادٍ صحيحٍ عن جابرٍ _رضي الله عنه _
قال : قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " إن إبليس يضع عرشه على الماء ،
ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلةً ؛ أعظمهم فتنةً ، يجيء أحدهم ، فيقول : فعلت
كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئاً ، قال : ويجيء أحدهم ، فيقول : ما تركته حتى
فرقت بينه وبين أهله، قال: فيدنيه منه - أو قال: فيلتزمه - ويقول: نعم أنت أنت
" .
فأقول _والله أعلم _ أنه لا يليقُ برجلٍ تخرَّج من مدرسة النبوة ، أن يصدر
منه مثل ذلك ، وهو يعلمه ، فكيف ذلك وهو لم يصحْ عنه ؟ : (أعني : المغيرة _رضى
الله عنه_) !! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق