وجهة نظر في كون الاجتهاد يتجزأ..(أبــو مالــــك العـــــوضـــي)
_____________________________________________
يقول بعض
أهل العلم: إن الاجتهاد يتجزأ.
ويفهم كثير
من الناس من هذه المقولة أن الإنسان يمكنه أن يكون مجتهدا في علم واحد من العلوم، وكذلك
في باب واحد من أبواب العلم، بل فهم بعضهم أن الإنسان يمكنه أن يكون مجتهدا في مسألة
واحدة من مسائل العلم!
ويحتجون على
ذلك بأشياء منها حديث (أفرضكم زيد، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ ... إلخ).
والذي أريد
أن أشير إليه في هذه المشاركة أن تجزؤ الاجتهاد ينبغي أن نفهمه فهما صحيحا حتى لا يُفتح
الباب على مصراعيه، فنرى كثيرا مما نراه من الانحراف في الفهم عند بعض طلبة العلم.
فالملاحظ
أن الإنسان في ابتداء عمره، وفي شِرَّة طلبه للعلم، ومع فَوْرة الشباب ونشاط الصبا؛
تراه يتطلع إلى مُنازَلة الفحول، ومقارَعة الصخور!
ثم لعله يقرأ
ما سَطَّره أهل العلم من ذم التقليد وأنه لا فرق بين مقلد وبهيمة، فيقول في نفسه:
(لا أقبل أن أكون مقلدا فأشابه البهيمة؛ ومن ثم فلا بد أن أجتهد ولو في مسألة واحدة
لأن أهل العلم قالوا: إن الاجتهاد يتجزأ)!
والذي يظهر
لي – والله تعالى أعلم – أن تجزؤ الاجتهاد المقصود عند أهل العلم إنما يكون لمن حصَّل
جملة لا بأس بها من مسائل العلم الأساسية في كل الفنون اللازمة للاستنباط.
فلا يُتصوَّر
مثلا أن يجتهد أحدٌ في مسألة فقهية وهو لا يعرف مبادئ علم الفقه ومسائله المشهورة.
وكذلك فالاجتهاد
في هذه المسألة يقتضي أن يكون على دراية بأصول الفقه التي ينبني عليها ترجيح قول على
قول؛ والعلم بمسألة واحدة من مسائل الأصول أو حتى عشر مسائل لا تكفي ليقال عن رجل بأنه
على علم بالأصول، وعليه فلا يمكنه أن يستنبط إن كان جاهلا بمعظم مسائل الأصول.
وكذلك يلزم
هذا الذي يريد أن يجتهد في مسألة واحدة أن يكون لديه من الأصول اللغوية جملة وافرة
تساعده على هذا الاجتهاد؛ لأنه إن كان جاهلا بالنحو أو الصرف أو البلاغة أو متن اللغة
أو مهيع كلام العرب فإنه لا يصلح أن يجتهد ولا حتى في مسألة واحدة.
وكذلك يلزم
هذا الذي يريد أن يجتهد في هذه المسألة الواحدة أن يكون على دراية بأصول الحديث؛ لأن
المسألة الفقهية غالبا ما تكون مبنية على نصوص حديثية، ومن ثم فيلزمه أن يكون ملما
على الأقل بالأصول العامة التي تمكنه من تمييز الصحيح من الضعيف أو على الأقل يكون
عنده قدر من العلم يمكنه من استخراج ما يحتاجه من مظانه، أما أن يكون جاهلا جهلا تاما
بعلم الحديث ويقول: هذه مسألة فقهية لا تعلق للحديث بها فهذا كلام واضح البطلان.
وكذلك يلزم
هذا الذي يريد أن يجتهد في هذه المسألة الواحدة أن يكون على دراية بأصول التفسير وكذلك
علوم القرآن؛ لأن المسائل الفقهية كثيرا ما تكون معتمدة على نصوص قرآنية، فإذا لم يكن
لديه علم البتة بشيء ولو قليل من أساسيات علوم القرآن فكيف يستطيع أن يدعي أنه يفهم
القرآن فهما صحيحا؟
وكذلك يلزم
هذا الذي يريد أن يجتهد في هذه المسألة الواحدة أن يكون على دراية ولو قليلة بمنهج
السلف الصالح والأئمة الأعلام في الإجماع والخلاف؛ كما قال الشافعي رحمه الله تعالى:
من لم يعرف الخلاف فلم يشام رائحة الفقه!
فكيف نتصور
أن يصير الإنسان فقيها وهو لم يدرس شيئا من مسائل الفقه، ولم يطلع على اختلاف العلماء
ومناقشاتهم، ولم يتبصر في مناظراتهم واستدلالاتهم؟!
والعلوم كلها
إما عقلية وإما نقلية وإما مركب من هذين.
والسلف لم
يكونوا يدرسون العلوم العقلية استقلالا؛ ولكن كثرة مدارستهم للعلوم النقلية كان يعطيهم
ملكة عقلية ومقدرة استنباطية تمكنهم من الاجتهاد، بل كانوا أصح نظرا وأعمق فهما من
كثير من المتأخرين.
والمتأخرون
يسَّروا هذا على المتعلمين، وذللوا طرق الطلب بوضع وتأصيل العلوم العقلية، وجمع العلوم
النقلية في أصول كلية أغلبية.
فمن لم يدرس
العلوم العقلية على طريقة المتأخرين، ولا اطلع على منهج السلف الصالح في دراسة العلوم
النقلية، فكيف نظن أنه يمكن أن يصير فقيها يستطيع الاستنباط والاجتهاد؟
خلاصة ما
أريد قوله أن تجزؤ الاجتهاد ليس كما يفهمه كثير من المعاصرين
وذلك بأن
(يأتي على مجموعة من الكتب التي بحثت مسألة من المسائل وينظر فيها؛ ثم يحاول أن يرجح
قولا على قول)، وهو أصلا ليس بذي خبرة في العلوم الشرعية الأساسية لطالب العلم، بل
قصارى أمره أن يكون درس مختصرا في علم الحديث أو اطلع على نتف من مسائل الفقه في نيل
الأوطار أو المحلى.
وورد عن علي
بن أبي طالب أنه رأى رجلا يقص في المسجد فقال: أتعلم الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا ، قال:
هلكت وأهلكت!
والمتقدمون
من أهل العلم كانوا يطلقون (الناسخ والمنسوخ) على ما يشبه علم أصول الفقه عند المتأخرين،
ولا يقصدون به النسخ الاصطلاحي، بل يشمل عندهم المطلق والمقيد والعام والخاص ونحو ذلك،
ولذلك كانوا يطلقون النسخ على أشباه هذه المسائل.
فمن لم يعرف
الأصول لم يستطع الوصول!
والمتمكنون
من السلف كانوا يتحرجون من الفتوى خاصة في غير تخصصهم:
فكان الإمام
أحمد إذا سئل عن لفظة غريبة في الحديث يقول: سلوا أهل الغريب!
وكان الأصمعي
إذا سئل عن معنى حديث يقول: أنا لا أشرح الحديث، ولكن العرب تزعم كذا!
فإذا كان
الفحول يتحرجون هذا التحرج ويتأخرون هذا التأخر؛ أفلا يليق بنا أن نقتدي بهم، ونهتدي
بهديهم؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق